'حوار الأوتار 2'.. حيث تتكلم الموسيقى بلغات العالم
احتضن مسرح مهرجان الحمامات الدولي عرض "حوار الأوتار 2"، للفنان والمايسترو كمال الفرجاني ضمن فعاليات الدورة 59 من مهرجان الحمامات الدولي.
هذا المشروع الفني، الذي يأتي بعد أكثر من أربع سنوات على النسخة الأولى، مثّل تكريساً لمقاربة موسيقية تقوم على تلاقح الثقافات وانفتاح التجربة التونسية على الأنماط العالمية.
وتشمل الأعمال المعروضة مقطوعات مستوحاة من موسيقات تونسية، مغربية، فلسطينية، جزائرية، فرنسية، إيطالية وتركية، إلى جانب أغانٍ أصلية من تأليف كمال الفرجاني وونّاس خليجان.
تكريم لروح وناس خليجان
افتُتحت السهرة بعرض فيلم وثائقي قصير خصّص لتكريم الفنان الراحل ونّاس خليجان، أحد أعلام الموسيقى التونسية، الذي وافته المنية في 22 جويلية 2024 عن عمر ناهز 65 عاماً.
وقدّم الشريط شهادات مؤثرة لعدد من زملائه وتلاميذه، ممن عايشوا مسيرته الطويلة، حيث عُرف خليجان بكونه موسيقياً مبدعاً، وموزعاً بارعاً، ورساماً صاحب رؤية فنية خاصة.
وكان لخليجان مساهمات راسخة في المشهد الثقافي التونسي، إذ تعاون مع فرق موسيقية مرموقة كالأوركستر السمفوني التونسي، وفرقة الموسيقى العربية، كما ألّف الموسيقى لعدد من المسلسلات والمسرحيات، أبرزها مسلسل "بيت العنكبوت". وكان آخر أعماله عرض "ديو" الذي قدم فيه حواراً موسيقياً بين الآلات تميز بطابع بوليفوني تجريبي، من بينه المقطوعة اللافتة "حبّات".
من زهرة المدائن إلى مارش موزارت
بدأ العرض حوالي الساعة العاشرة ليلاً بمشاركة فرقة موسيقية متعددة الأجيال يقودها كمال الفرجاني، في توليفة فنية تنقل بين المقامات والمدارس لعدد من الاغاني التي وزعها الفنان الراحل ونّاس خليجان.
افتتحت الفنانة رحاب الصغير السهرة بأداء مؤثر لأغنية "زهرة المدائن" تضامناً مع فلسطين، تلاها الفنان سليم دمق بأغنية " كامل الأوصاف" وسط تفاعل حار من الجمهور.
شهد العرض تنوعاً لافتاً في الأصوات والأنماط. فقدمت رحاب الصغير مجموعة من الأغاني من بينها "كبرت يا أمي" و"محلى ليالي إشبيلية"، فيما أدى سليم دمق مقطوعات من الكلاسيكيات العربية مثل "كامل الأوصاف" و"أنا هويت"، إلى جانب أغنيته الجديدة "أيامات".
أما الفنانة بثينة النابولي، التي عُرفت من خلال مشاركتها السابقة في عرض "نوبة غرام" بقرطاج وفوزها بجائزة الجمهور في الدورة السابقة لأيام قرطاج الموسية ، فقدّمت وصلة طربية شملت مقطوعات من "محير صيكة" ( يا مقواني، حزت البهاء والسر، اه وادعوني، اه يا خليلة) إلى جانب عملها الجديد "إنحبك".
بينما أضفى الفنان الأوبرالي هيثم القديري بُعداً درامياً على السهرة بأداء أوبرالي لعدد من الأغاني باللغة العربية، بينها "الليل يا روحي" و"كأنّا لا تعارفنا"، في تجربة وصفها لاحقاً بأنها بداية مشروع فني لإعادة صياغة الأوبرا بلغة الجمهور.
كما تضمّن البرنامج معزوفة "مارش تورك" لموزارت في توزيع جديد، قبل أن يُختتم العرض بأداء جماعي مشترك من الفنانين لأغنية "القمر المطلوب"، ليكون ختام السهرةٍ مزج بين التراث والحداثة، وبين الشرق والغرب.
مشروع موسيقي بفكر إنساني
يرتكز مشروع "حوار الأوتار" على رؤية فنية طموحة يتبناها كمال الفرجاني، تهدف إلى خلق تجربة موسيقية إنسانية تتجاوز الجغرافيا واللغة.
وقد أوضح الفرجاني في الندوة الصحفية المرافقة أن هذا العرض "مغامرة لا يمكن تقديمها في أي فضاء آخر"، واصفاً مسرح مهرجان الحمّامات بـ"المناضل والملتزم".
كما اعتبر أن الصوت البشري هو "آلة هوائية ناطقة وساحرة" تحمل الرسالة الفنية إلى قلوب الجمهور.
والفكرة الأساسية لهذا المشروع تتلخص في تقديم موسيقى ذات بعد عالمي، تُعاد قراءتها بأسلوب أوركسترالي معاصر، وتُرفد بنصوص شعرية عربية كتبها كل من آدم فتحي وخالد الوغلاني.
بين الفخر والمسؤولية
أكد الفنانون المشاركون في الندوة الصحفية بعد العرض على أهمية هذه التجربة الفنية، حيث عبّر سليم دمق عن أمله في أن يتواصل المشروع ويُعرض في مختلف مناطق تونس وخارجها، واصفاً العرض بأنه "مختلف وجميل".
أما بثينة النابولي فرأت في مشاركتها "فرصة للقاء جمهور متفاعل"، مشددة على أن كل عرض مسؤولية.
بينما وصف هيثم القديري التجربة بأنها "انطلاقة جديدة"، معلناً نيته تقديم نسخ عربية لأعمال أوبرالية عالمية تحت شعار "خاطب القوم بما يفهمون".
من جهتها، تحدثت رحاب الصغير بتأثر عن علاقتها الشخصية بالراحل ونّاس خليجان، معتبرة مشاركتها في هذا العرض بمثابة وفاء لأستاذها الذي سيبقى حاضراً عبر أعماله.
"حوار الأوتار" عرض بلا حدود
لم يكن "حوار الأوتار 2" مجرد أمسية موسيقية عابرة، بل جسّد رحلة وجدانية بلا جواز سفر، تتجاوز المفاهيم الكلاسيكية للعرض الموسيقي، وتحاكي تجربة إنسانية تنشد الجمال والحرية.
وعلى ركح مهرجان الحمامات الدولي، تحوّل اللقاء إلى احتفاء بالفن بوصفه لغةً توحّد البشر، وجسراً بين الثقافات، لتبرز الموسيقى كأسمى أشكال التعبير الإنساني وأكثرها قدرة على اختراق الحواجز اللغوية والجغرافية.
ومن خلال هذا المشروع، يواصل كمال الفرجاني ترسيخ رؤيته لموسيقى تتحدى الحدود، وتتحدث إلى الإنسان أينما كان، في ظل عالم أحوج ما يكون إلى الحوار... حتى بين الأوتار.
* صلاح الدين كريمي